"عزاء" .. قصه قصيره



ذهبت إليه فى معرضه أواسيه ... و أنا أعلم يقينا أن جراحه لا تلتئم ببساطه .. رفع وجهه نحوى من مقعده  و أفرج عن بعض اسنانه الصفراء ثم أشار إلى مقعد بجواره  , و بدا مرتاحا لوصولى .. سألته : هل انتهيت من  ثلاثية العزاء ؟  هز رأسه و لم ينبس بكلمه ..
و جدتنى حائرا مضطربا و انا أحاول إيجاد مدخلا إليه .. كان الذهاب إلى المدينه فى مثل هذه الاوقات ؛ مستهجنا و و مثيرا للتساؤل و العجب .. و أعلم انه لا يهتم كثيرا بما يراه الآخرون حين تطرأ لذهنه فكره من اى نوع , هاتفنى يومها عصرا و هو فى الطريق اليها مخبرا بوجهته فاندهشت كثيرا .. فمنذ الرابعه  على هذا الطريق تبدأ  اجراءات الحذر و الترقب و هو يعتمد على  ذهابه وإيابه اليومى  ؛ و كأنه سائق لسيارة أجره يعرف أهل الطريق و يعرفونه بسيارته المميزه ؛  المرسيدس القديمه  عصيه على التخلى عنها لمن ألفها .. و سيارته سماوية اللون براقه و ثيرة الفراش  واسعه وكأنها صالون قصر, زودها بكل الكماليات المتاحه  و كأنه ينوى أن يكتفى بها دون مسكنه , ما إن يجلس الى مقودها  يبدو و كأنه  ملك الدنيا و ما فيها .. أرى هذا فى عينيه و ارتياحه حين يسند الى ظاهر المقعد ظهره و يملأ صدره بهواء البحر المفعم برائحة اليود
 رفع رأسه نحوى و سال عن أحد الاصدقاء لأنه لم يره طوال الايام الثلاثه  الماضيه ,  فقلت متبرعا أنه ربما يكون مسافرا , نظر الى الشارع من خلال الزجاج الخارجى  للمعرض  و هز رأسه موافقا ثم عاد الى إطراقته ..
  فتاته الصغيره لم تكن تعجبها سيارته , و تأمره بنزق الصغار أن يغيرها  ؛ فيضحك  باعتزاز و يعدها بأن يفعل .. ثم يتندر على سذاجتها  و قلة إلمامها بصعوبة أن يغير سيارة مثلها بأخرى صغيره ,  حديثه و ورقيه الطراز ينهدم بنيانها عند أول  احتكاك مع اخرى .. فى حين أن سيارته  صامده و قادره  و براحها يمكنه من سكناها لو أراد .. و كان منذ ايام قليله يجرى عليها صيانه اعتادها سنويا كلفته هذه المره اكثر من خمسة آلاف  ..
  .. جاء من الخارج صوت إطلاقات سريعه  دفعة وراء أخرى من رشاش مدرعة الجيش  ثم أخرى  تتوالى وراء بعضها بصورة مفاجئه .. وقفنا معا و اقتربنا من الباب الخارجى دون أن نجروء على الخروج لاستطلاع الامر, و خلا الشارع التجارى مباشرة من البشر و بعضهم ترك سيارته فى عرض الطريق مختفيا فى أحد المحلات على الجانبين ,  دوى انفجار هائل جاء من الميدان المار به الطريق الدولى  ؛ هناك حيث يقبع قسم الشرطه  وتصاعد دخان أسود كثيف .. جاء صوت من الخارج  عاليا يقول أنها سيارة انتحارى أمام القسم  , صوت آخر قال انها اقتحمت بوابة القسم و اطلاقات الرشاشات ما تزال تدوى مختلطة من هناك و كأنها تبعد أمتارا منا ,   ثم دوى انفجار آخر ربما أقل حده من سابقه و كان مكتوما و دخانه كان أكثر سوادا , و مرقت سيارة دفع رباعى من أمامنا  مزيحة إحدى السيارات الصغيره من طريقها .. كان يقودها أحد الملثمين , بجانبه آخر يخرج بنصفه العلوى من شباكها ممسكا برشاشه ؛ بينما يقبع آخر فى صندوقها وراء مدفع افراد مثبت فوق عريشها و كلاهما يطلق من سلاحه زخات هنا و هناك نحو السماء تارة و للخلف تارة اخرى..
 نظر ايهاب الى و قال : هذه سيارة اخرى تتحطم دون ذنب , فما ذنب صاحبها فى هذا ..؟ 
  كابدت غيظا ممزوجا بضحكه مبتوره , فأى سيارة يتحدث عنها الآن وسط معركة كهذه .. بينما تمر سيارة أخرى بنفس مواصفات السابقه  و بنفس اندفاعها  .. تتبعها مدرعة للجيش و هى تطلق من مدفعها طلقات متتابعه
 .. كان صوتها عاليا حتى انه اضطرنا الى سد آذاننا بقوه .. المدرعه أيضا كانت توجه إطلاقاتها فوق مستوى المبانى ذات الطابقين على الاكثر  بحذر مبرر .. فلا هى تلحق بالسيارتين , و لاهى يمكنها التصويب عليهما بين الاهالى و مبانيهم من بعيد بينما إحدى الطلقات تطيح بفرع من الشجره العملاقه التى يقال أنها شهدت على مرورعمرو ابن العاص فى طريقه الى المساعيد فحصن بابليون ..
هاتفنى من البيت ولدى ليخبرنى أن طلقة "آر بى جى" سقطت بالقرب من بيتنا – الناحيه الاخرى من القسم - و انفجرت مطيحة بإحدى اشجار الأثل القريبه .. و لم  تصب أحد فى الشارع الخالى ؛ ثم يستطرد : أين أنت ؟ نحن قلقون عليك .
طمأنته و رجوته عدم الخروج من المنزل  و لا حتى الذهاب إلى موقع انفجار الطلقه المذكوره حتى تهدأ الامور .
  كان صاحبى يحاول غلق الباب الخارجى لمعرضه , لكن زخات من رشاش مجهول كانت قريبه لتجعله يتراجع فى غيظ و انفعال شديد .. " ولاد الوسخه دول .. هيدمروا المحل هو كمان ؟؟!!! " و القى بجسده فوق مقعده الوثير مستسلما ...
أحد الجيران جاء مندفعا الينا محادثا صاحبى  :" المجنيين كانوا عاملين  هجوم على القسم من أربع جهات .. وإحدى سياراتهم حاولت اقتحام البوابه فانفجرت بحموله من المتفجرات  وصلت قوتها الى تدمير المحلات  عند مجلس المدينه ... " تنفس قليلا بينما كلانا ينتظر .. ثم راح يكمل نشرته الاخباريه : " ولدين آخرين كانا فوق دراجه صينيه .. حاولا عمل فتحه فى السور من ناحية المسجد بعبوة ناسفه اخرى  معهما ؛ فانفجرت بهما و لم يعثر لهما على أثر سوى أشلاء على أطراف السور ..." ,  استطرد قائلا :" السور ده كانت الشرطه تحصنه منذ أكثر من شهر تقريبا , و كأنهم كانوا يتوقعون مثل هذه الرعونه من المجنيين  "  كانت الأحداث حولنا فى بدايتها  و كنا نسمى هؤلاء ب"المجنيين" قبل أن تتضح الصوره مع سقوط النظام الجديد ..
  أما " صديقى الحزين " فعلق قائلا : " يعنى سيارة الانتحاريين و دراجه بخاريه  و هذه السياره التى ازاحوها من طريقهم و هم يهربون و الشجره العتيقه الاثريه التى قصفت بالخطأ ,  و ماذا بعد ... ؟ !!! "
ضحك جاره  و قال :" لو أن هذه كل الخسائر فلا باس ؛ هناك خمسه من سيارات الأهالى كانت تقف على الطريق حول الميدان .. تلك التى تذهب بالأجره الى المدينه و أيضا قتل أحد الاهالى و و أصيب  آخرون لم نعرف بعد عددهم  , و يقال أن أحد جنود القسم فوق السطح قتله قناص من المجنيين قبل هجومهم بقليل ." و كانت سيارات الإسعاف قد بدأت صافراتها تعلو من بعيد .
  وجاء آخر ليكمل المشهد : "  إحدى مدرعات الجيش تطارد سيارتين فرتا نحو الجوره  , و هناك واحده اخرى دخلت حيكم .. و تبعتها "همر " عسكريه "وكان نصف الخبرالأخير موجها لى .. تناولت هاتفى و حادثت ولدى هناك فأخبرنى أن "فيرنا رصاصية اللون مرقت أمام بيتنا و كانت مدرعه عسكريه تطاردها وأصابت إحدى طلقاتها السور العلوى لبيتنا فى الطابق الثانى ,  و أن سيارة الفيرنا لاتحمل لوحات معدنيه و يستقلها أربعا ملثمين ... , و أنهم ابتعدوا حاليا و لا أثر لهم ...
 بدوت قلقا  و متوترا  .. و أجبت على سؤال أحدهم بما أخبرنى الولد , فنصحنى  بعدم الذهاب الآن لأن سيارات الجيش تجوب المدينه كلها و تطلق كيفما اتفق ..
 جلست مستسلما و توجهت الى صاحبى و سالته :" هل ما تزال حزينا الآن لما حدث لك ؟؟" فارخى ذراعيه متحسرا  و قال :  "لا راد لقضاء الله .. ربنا يجيب العواقب سليمه "
 ضحك احدهم و اضاف :" أبو زياد ؛ أنت يجب أن تحمد الله و تشكرفضله .. خروجك سليم من واقعتك الماضيه يمثل إحدى معجزات الله الكبرى .. يا رجل قتل شرطى و اصيب اربع .. و خرجت سليما معافى !!! فما يحزنك ؟!!"
 نظر مستغربا سؤاله ولم يقل شيئا ..
أحد جيرانه كان يحاول الوصول الى الميدان لمعرفة أخبار جديده ؛ ففوجئنا بعودته  متذمرا و هو يردد  هتحبسونا فى محلاتنا يعنى " و أضاف :" معظم الناس اللى كانوا فى السوق اليوم محبوسين فى المحلات والبيوت اللى فى الحوارى الجانبيه , هنعمل ايه ؟ "
 قال "صديقى الحزين " : سنظل  كما نحن فى محلاتنا حتى تهدأ الامور قليلا .." ثم أضاف :" ألا يمكننا الدوران من الخلف باتجاه حى الكوثر ؟؟ "
 قال الآخر :" ربما فيما بعد , لأن جنود الحيش يطلقون النار على أى شىء يتحرك فى الشوارع الآن "
 و أضاف الاول : " على فكره آخر الاخبار..  أن سيارات الأهالى دمر منها سبع و انزوى من استطاع بسيارته فى الشوارع الجانبيه القريبه و قبض على ما يزيد عن 70 رجل وامرأه ممن حاولوا العوده الى بيوتهم  و موظفى مديرية التعليم و المجلس  و شركة الكهرباء ؛ جميعهم كانوامحتجزين  بالمديريه , و الآن نقلتهم الشرطه الى ساحة القسم تمهيدا لصرفهم بعد التعرف على هوياتهم "
  قال صاحبى  :" آه ...  يا ويل أهله اللى خارج صدفه من غيرالرقم القومى .. فربما يؤخذ دون رجعه  .. وبدا أننا جميعا نوافقه .. ففى مدينه صغيره و نائيه  كمدينتنا لا يبدو حمل بطاقة الرقم القومى ذو أهميه كبيره .. و لكن تأتى أمور و تستجد احداث ..
حاولت مداعبة صديقى الحزين   : " هل كنت تحمل بطاقتك و أنت ذاهب الى العريش  ؟؟ " فنظر إلى  شذرا و قال باستفزاز : " أنا لا أخرج من بيتى دون بطاقة الرقم القومى , فهل تظننى أذهب إلى المدينه بسيارتى دون أوراقى و أوراقها !!!!؟ "
 أنهيت حالة الحدة التى جاءت على غير ما ابتغيت  بقولى "  أعلم أعلم ... لكنك لم تحتجز  كهؤلاء ثم  وجدت من ينقلك من الموقع سليما معافى . .

 مالت أشعة الشمس نحو الغروب بصوره مباغته .0.و بدا أن حانت ساعة الرحيل , و الاكتفاء بما حدث اليوم .. فى طريقنا الذى حرصنا فيه على  سلوك الشوارع الخلفيه بعيدا عن الشارع العام كان مشغولا باستقصاء خسائر اليوم منذ بدأت الاحداث فى العاشره صباحا  و مهتما بصورة ملحوظه بعدد السيارات التى دمرت كليا أو جزئيا و بدا مرتاحا لما كان من بينها ثلاثا كانت تقف وديعه أمام محلات ملاكها , فيبدو أن هناك الآن من جيرانه فى شارع السوق من يشاطره أحزانه .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الكهرباء الحره