ليس بعد .. قصه قصيره
ليس بعد ...
ينتابنى خجل عارم كلما لمحتنى انظر اليها .. وعود من
الخشب ينغز فى صدرى كلما طاف بى خيالها أو شعرت بوجودها فى الميدان الواسع .. مرات
قليله تواجدت بها فى الميدان الشهير ؛ لكنها و من أول مرة رأيتها جذبتنى عيناها
المتحفزه , و قصة شعرها البسيطه التى تقف به عند كتفيها , منسدلا ناعما
و تبدو سعادته و هو يزين و
جهها نحاسى اللون و عودها المنحوت بسلاسه
من عاج طرى .. هل هناك عاج طرى؟
اراها كذلك و لا يلومننى أحد و هل هناك عاج نحاسى .؟ .. لا أحتمل أن يقيم وصفى
لها أحد .. و لن أصف لكم مزيدا منها , فهى أثيرتى أنا و لا دخل لاى كان ..
فى كل مرة يأخذنى الشوق الى هناك , انشغل بالبحث عن و
جهها ممنيا نفسى - فقط - بابتسامتها
الحلوه حين تلتقى عينانا , و أشم ريحها و
أشعر بها قبل أن أراها , و لا أطمع فى
مزيد .. فهى دائما منشغله بعمل يبدو هام
للغايه , تعمل كما يبدو لى ضمن منظمه خيريه تهتم بأمر المصابين و أهالى
شهداء الثوره و بمن يسوقهم حظهم العاثر
الى أيدى الشرطه محبوسين أو مساجين ,
تتبدل مجموعتى
فى كل مرة أحل بها للميدان .. فمرة مجموعة من "الدستور " و مرة مجموعة
من " التيار الشعبى " و مرة مجموعة حره لا تنتمى لاى فصيل بعينه .. و الحقيقه اننى احرص على هذا للتعرف على
حركات و مجموعات شبابيه مختلفه .. كى لا
تغشنا صحيفه أو فضائيه .. فإعلامنا يبدو
غير مهتم كثيرا بالحقيقه على حساب المصالح
هنا او هناك .. و لا يخلو من اهواء
النخبه القديمه المحسوبه على نظام اسقطناه
او هكذا نظن و اشعر اننى مؤتمن على توجه واحد لهذه البلاد و هو نداء هذه الثوره
الاثير .. و الاهم من هذا انشغالى بهذه
السيدة التى اسرتنى بابتسامتها العذبه .. و اهتماماتها بما اشرت اليه سابقا
ربما لو لم اجد
فى الميدان غيرأن احظى بهذه الابتسامه كلما تواجهنا بغته فهى تكفينى ..
لا اعرف إن كنت
احببتها كما تقول اساطير المحبين من اول نظره او انه مجرد إعجاب بشخصيه نسائيه
عامله .. جاده وحلوه تفوح منها أنوثة تكفى نساء العالمين و امومة
تملأ قلوب كل القديسين ..
هذه المره كانت الدنيا اكثر اشراقا و بهجه , بعد خروج
ملايين اسقطت نظاما آخر كان من اول وهله
يتآمر على الثوره و الخارجين فيها و لم
يشارك كفصيل وطنى كما يدعى البعض سوى بعد
انهيار جهاز الامن الرهيب , ثم حاول ركوب
موجة الثوره و ادعاء قيادتها ؛ و كان حياد الداخليه وعودة الثقه الى رجالها و
تعاونهم مع المتظاهرين و حمايتهم ؛ و ظهور معدات الجيش التى تقف فى كل ناصية و
ميدان للحمايه و المشاركه ؛ كانتا حالتين أدعى للبهجه و إشراقة الامل فى نفوسنا
جميعا .
بينما كنت
متوجها الى فندقى بعد مشاركتى فى ندوة احتفاليه
جاءت بعد اكثر من شهرين تقريبا من فض اعتصامى رابعه و النهضه , قضيناها نتحدث عما
بعد هذه الاحداث المعطله لانطلاق الوطن نحو نهضه حقيقيه ؛ استوقفنى رجل بملابس مدنيه .. ليسألنى عن هويتى .. و رحت بارتياح أخرج له الهويه , و انا أساله عن
هويته أيضا ليفاجئنى بضحكه ساخره : و انت
عاوز هويتى ليه بقى يا ناصح ؟
فبدأ القلق
يتسرب الى نفسى و تراجعت عن التجاوب معه لأجد عددا من الرجال تجمعوا من حولنا و كلا تمتد يده الى حقيبةسفرى الصغيره و إلى جيوبى و تنهال أسئلتهم عن وجهتى و ما احمل و ماذا
افعل و و اين اذهب و .. و .. و بالنهاية و
جهنى الضابط – فهمت اخيرا - الى سيارة
شرطه كانت مختفية فى زاوية من شارع جانبى .... و هناك وجدت عددا لا يقل عن عشرين
شابا .. حين تعرفت اليهم وجدتهم جميعا عدا اثنين من اهل القاهره ’ و كنت اذن
الثالث من خارجها .. و ازدحام السيارة بهم اضطرنى الى الوقوف منحنيا لفترة طويله
انهكتنى ..
لاحظ احدهم
قلقى و إجهادى ؛ فتبسم و طلب منى استبدال
الاماكن و هو يخبرنى بان المعاناة
الحقيقيه لم تأتى بعد .. .. حين وصلنا قسم الشرطه كنا نزيد عن الثلاثين .. وحين
جاء دورى امام ضابط القسم افرغ حقيبتى و بدأ يدون ما بها من اغراض .. وراح يقلب فى
هاتفى الخاص , ويسالنى هو يضحك : اليس لك حساب فسبوك او تويتر ..؟ وهو يضحك بتشفى
لا اجد له مبررا ..
ثم سالنى عما
افعل بالقاهره و بالتحرير حتى هذه الساعه
من الليل و اين و لم لا احمل مصحفا أو شعارا كما يفعل الشباب .. و انا صامت لا
اجيب , مما اثار حنقه و و عدوانيته تجاهى
..
قضيت الليله فى غرفه بها ما يقرب من خمسين فرد واقفا لا اجد مكانا لمجرد الجلوس .. و كان على
ان ادفع لجندى الحراسه كى اجد مكانا للراحه
و بالطبع كنت جاهلا لمثل هذه الاجراءات الروتينيه المتبعه هنا , و فى
الصباح نادى الضابط على اسمى و معى عشرا او اكثر قليلا كى نتوجه الى النيابه دون ان اعرف تهمه بعينها
قد تكون وجهت الى شخصى .
حين دخلت على وكيل النيابه و قرأ محضرى ؛ ابتسم بسخريه
ثم امر باعادتى الى القسم .. لا شىء يديننى إذن .. و كان على ان انتظر حتى يكتمل
التحقيق مع الآخرين .. اصطففنا فى طابور
ليطالبنا امين شرطه بإيعاز من السائق بتكلفة بنزين السياره و الافطار و ايضا الشاى
لزوم تضبيط الدماغ كى يتم توصيلنا دون حوادث طرق .. كانت هذه اسباب وجيهه كى يدفع
كل منا عشرون جنيها لا اكثر .. و صلنا قسم الشرطه ليستقبلنا الضابط و حفنة الجنود
ببعض مما عندهم من سباب و ركل و ضرب و لم اسلم انا ايضا من هذه الحفله المتواضعه
.. فاحد الشباب يبدو ذو سوابق سياسيه كان
حريصا على ان يخبرنا بان المعاناة لم تبدأ
بعد , ربما كى نتماسك , و نوه الى ان حسابات المواقع الاجتماعيه لها معاملات خاصه هنا و انه الغى تماما اشتراك
النت من هاتفه لما فهم العواقب الوخيمه لنشطاء الفيس و التويتر, و فى كل مره كنت ابادلهم نكاتا و سخريه مما
نلقاه و أحاول تشجيعهم حتى لا يضعفوا بينما كنت من داخلى منهارا و مصدوما مما تفعل
الشرطه بنا حتى بعد موجة الثوره الثانيه التى
تشاركنا فيها معا.. ادخلونا زنزانه اخرى
هذه المره و سالت عن حارسها بدورى لادفع له ما يمكننى من ايجاد مكان للنوم و لو
ساعه واحد ه .. و رغم اننى فوجئت بتسعيرة الراحه لساعه واحده ؛ كنت مضطرا لاعطائه
ما طلب , فلم اكن احتمل رفع راسى او صلب عودى بعد كل ما لاقيت .. و انصرف الحارس و لم اره ثانية ..
افقت على نداء احد الضباط على اسمى .. و حين اكتشفت أننى نمت واقفا كانت
سعادتى اكبر من أن أصفها .. و حاله من
نشوة الانتصار تغمرنى .. قادنى جندى إلى
ضابط آخر بملابس مدنيه فى طابق علوى ؛ طلب
منى الجلوس بدماثة خلق , و بدأ فى تحقيق من نوع آخر, سماه هو " شوية دردشه
" و رغم حرصه على ان يبدو مهذبا و
مجاملا و متفهما و ثوريا اكثر حماسا من
نشطاء الثورة المعروفين اعلاميا ؛ تخللت حوارنا بين وقت و آخر بعض اهانات لم
تعد تؤدى غرضها بى .. حرصت فى إجاباتى معه على ان أريحه تماما , وأن اوافقه كثيرا بمعرفتى الى اى مدى يحرص جهاز الامن الوطنى على
سلامة الوطن و مستقبل ابنائه , و إلى أى
مدى يبذل رجال الشرطه جهودا و يذهب منها شهداء فداءا للوطن و للثوره , و الى اى
مدى يبدو للعامه قبل الخاصه طمع السياسيين
من القوى المدنيه و انحرافهم , ومدى جهل الشباب من القوى الثوريه بما يحاك
للبلاد من مؤامرات و ما نالها من ابنائها
باسم الثوره .. و بدا مرتاحا لما وصلنا اليه
.. و اخيرا جاء الوقت الذى بش فيه بوجهى , و أبدى اعتذارا لما نالنى ليومين من شرطة
الوطن الحبيبه ..
حين خرجت من قسم
شرطة الوطن ؛ لم اكن اريد من الدنيا اكثر من أن اجد مكانا للنوم .. ناديت سيارة
اجرة و رجوته توصيلى الى فندقى و ان يوقظنى حين يصل لو اننى نمت فى الطريق ..
حين راجعت
ماحدث فى ليلتي الماضيتين ؛ لاحظت توقف عود الخشب الذى ينغز فى صدرى رغم طيفها
المحلق فى سماء الغرفه , وبدأت اتفهم ان امورا كثيره توهمنا انتهائها لم تنته ,.وان بهجة خلاص حسبناها اقتربت بما يمكننا الإمساك
بها ؛ لم تكن سوى سرابا .
عزيز
المصرى
تعليقات
إرسال تعليق