الطابق الاخير .


-       الطابق الاخير

كاد حرصى بألا يرانى  يهلكنى ,  وكادت قدمى تنزلق أكثر من مرة حتى اننى كنت مضطرا لخلع حذائى ,  فالإفريز كان بالكاد يسع القدم , أما حرصه هو فكان بأ ن يصل الى نقطة اللاعودة عند زاوية المبنى الخارجية , تلك التى تقع فوق ناصية الشارعين الكبيرين وهناك خارج الطابق الثلاثين من المبنى الفخم الذى يضم مصالح الدولة ومؤسساتها الوطنية ؛
   لذلك  أيضا كانت نقمتى عليه  .
 حين انتبه إلى : غاص قلبى عند قدمى  , وكنت إتعجب ؛ كيف  وصل حريصا على الموت الى موقع بهذه الخطورة  ؟ سألته وأنا أرسم ابتسامة مطمئنة ؛ ماذا لو فعلناها سويا ؟
ارتسمت الدهشة على وجهه المتعب وقال باستنكار ؛ " ماذا ؟ ماذا تقول ؟
قلت : نفعلها سويا , أنا جاهز , لطالما فكرت فى الأمر , ولم يدخل معى حيز التنفيذ إلا حين رأيتك تنوى فعلها .
سألنى وقد فاض كيله : ولم تريد ذلك ؟ لدى ما يدفعنى للأمر , فلم تريد انت ؟
  أنا أيضا لدى أسبابى  وهى كثيرة , أقلها أن اترك دائنى فى ورطة انا حاليا غارق فيها الى هنا , واشرت إلى أعلى أنفى بينما أرسم ابتسامة تشفى لائقة بالموقف حسب ظنى .
  لا تبدو يائسا كما أنا ؛ قالها وهو ينظر إلى قدميه ويحاول تثبيتهما على الإفريز الأملس  ولأننى بدأت تتعرق قدماى أيقنت ان قدماه ربما تكون سببا للتعجيل بما كان ينوى فعله . قلت  مستنكرا : ولكن لم اخترت هذا الطابق ؟ كان يكفى الخامس أو العاشر  .
 أشار بطرف أنفه بينما يجاهد فى التشبث بالحائط الأملس وراءه: ألا ترى الطابق الأخير ؟ هو فى طور الإنشاء , وأنا . . لا اريده ان يكتمل فى حياتى .. كان اربعا فقط حين عملت به ولم يطرأ على حياتى تحسنا حتى وصل الى هنا . .
  هل تفهم ؟  . . ولم افهم فى الحقيقة إلام يرمى , كنت اتطلع الى ناصية الشارع البعيدة , واتساءل لم تأخر ت سيارات النجدة  الى هذا الحد والمسافة لا تستغرق ست دقائق كاملة , ربما اقل . . أقل كثيرا , اللهم إلا إذا اكمل الرجل طعامه الذى كان يتناوله بينما كان يتلقى مكالمتى , لكنه كان جادا فى تلقى البلاغ وفى كتابة تفاصيل العنوان ورقم الطابق الذى يقف فيه الرجل المسكين , ولم ينس أيضا أن يأخذ رقمى القومى ومكان عملى وتاريخ مولدى وعنوان مسكنى
  حاولت الاقتراب منه وانا غير واثق  تماما بقدرتى على مجاراته , لكنه اشار الى باستنكار وامرنى ان اثبت مكانى , بينما بدا عليه التوتر والانفعال , وتكاد تنزلق قدمه فتراجعت  وانا اهدئه واحاول العودة الى حوارنا اليائس معا .
 لم تأت سيارات النجدة حتى الآن , وبدا انهم قرروا تركنا نفعلها , بينما تجمع كثير من المارة بالأسفل وبدوا كأنهم قطيع نمل حول قطعة سكر .
 سألنى فى قلق ؛ هل تحتسب فعلته هذه إهدار للحياة  ؟ أو إعلانا للتمرد على قدر الله ؟ قلت أن الله لا يرضى بما يعانيه حتما , ولعله يدبر لنا مخرجا مما نعانيه , ولكنى عموما لا أريد الانتظار  , لأن ما عند الله أفضل ,وأنا استعجل الذهاب إليه . . هل  . . تفكر الامر ؟ . . نفكر فيه قليلا  ؟
 : " أظن أن الأمر خطير إلى الدرجة التى تجعلنا نفكر بعض الشىء " وتخيلته يحك رأسه لولا وقفته الحرجة  فواصلت المحاورة وانا احاول ان اخفى ارتياحى لما وصل الامر اليه :
"أراك تراجعت يا صديقى  , وبابتسامة ألفة سالته : هل تخبرنى باسمك ؟ لم أعرف اسمك بعد . . ؟"
" صابر . . اسمى صابر , منذ ثلاثين عام وأنا صابر ولا فائدة وكأنى ألاحق سرابا . . لكنى لا أريد أن أحمل ذنبك معى , ربما أجد الحجة عند الله وأنا وحدى "
  تجاهلت محاولته إثنائى وواصلت كمن يحادث نفسه : لدى ثلاثة ابناء  وزوجة فى طيبة امى وصبرها ,  هل لك أم كأمى ؟
  قال متلهفا : " لك أم على قيد الحياة , وتريد أن تفارقها ؟!  هذا جحود , عد اليها وقبل يدها , وابك عند قدميها حتى تلقى الله , حينها ؛ تعال الى هنا واظ فعل ما تشاء "
 "وانت ؟ ؟  أما زلت . . ؟ "
  " انا ما زلت افكر فى الامر , أمورى اكثر تعقيدا مما تظن " يقول وما يفتر يرفع عينيه الى أعلى نحو الطابق تحت الإنشاء . .
  قطيع النمل فى الاسفل يزداد اتساعا , ضوضاؤهم  بدات تصل الى مسامعنا , وانا فاقد الامل فى نجدة من هؤلاء , وما أنتظره لم يأت بعد , 
التفت الى حركة عن يسارى فوجدت أحدهم يطل برأسه نحونا متسائلا : " هل أنضم اليكما ؟  فى كل الاحوال أريد ذلك وسأفعله "
 يارب العالمين , ماذا جرى لهؤلاء ؟ قلت بيأس وانا انظر اليه شذرا : " الإفريز يسع كل هؤلاء بالاسفل , ادعهم يأتينك قفزا , هل تظنها وليمة رمضانية ؟ "
  وتقدمت منه لعلى أتمكن من إعادته قبل ان يستفحل الامر , فسمعت صابر وهو يحثنى على التقدم حتى أمنع الرجل , وكنت متفهما لمشكلته فالجريرة صارت مزدوجة , وكان الرجل قد أخرج إحدى ساقيه وألقى نظرة الى أسفل فتردد قليلا والقى نظرة الى كلينا بغية التشجيع ربما .
 فاتاح لى وقتا للوصول اليه .
 عند النافذة جاءنى رجلا انيقا تبدو عليه النعمة وبدا عليه التوتر والانفعال . مخترقا حاجز الامن الذى صنعه رجال أمن بالمبنى بسهولة , , وبادرنى وهو ينهر رجلنا الثالث ويسحبه الى الداخل فى قسوة , بينما يتلقفه آخرون بالداخل  : " ماذا يريد صابر ؟ هل حاورته ؟ هل تحدثت معه ؟ لماذا يريد  . . ؟
  التفت الى صابر ورفعت صوتى ليسمع , اذهب من هنا , أنت
أحد هؤلاء اللذين يدفعوننا الى الجنون  على ما أظن " ثم انخفضت بصوتى نحوه : " هل يمكنك وقف الإنشاء فى الطابق الأخير ؟   كان مأخوذا ؛ سرعان ما عاد الى نفسه ثم وقع فى حيرة لا يدرى ما يجيب , فتركته وعدت الى صاحبى عند الإفريز المطل على الدنيا . .  والآخرة .
  فى الدنيا بأسفل مايزال الوضع كما هو جمهور متفرج  ونجدة لا تصل وصاحبى ما يزال غارقا فى تردده  ؛ فإنفاذه لما قرر لا يحتاج سوى ان يلقى بكل معاناته خلف ظهره ويقفز  , ولن يجد وقتا ليشعر بالألم ,  أما أن يقلع عما فى رأسه فهو أمر يحتاج الى الكثير من . . الحكمة ربما . .  أن يمنى بهزيمة اخرى ربما . . أن يأتى رجال النجدة  . . . ربما .
 انتبهت اليه وهو يحاول مد احدى ساقيه ,  مما زاد قلقى وحنقى على النجدة المنتظرة منذ أمد صار بعيدا , فسألته : مايشقيك الى هذا الحد فى بناء طابق جديد ؟ 
 قال وهو يرفع عينيه الى هناك فى غضب جارف وكأنه ينفث من مرجل يغلى : " منذ عشرين عاما احاول استكمال طابق واحد لأبنائى ,؛ منذ أكثر من ثلاثين عاما أحلم . . فقط احلم . . اعمل كما الثور  . . اركض كما الكلب . . و. .  وبين وقت وآخر أهتف كما الببغاء , أكاد الآن أحبو  . .  وهم . .  ينشؤون طابقا  فوق الثلاثين  "
 أيضا لم أفهم , حقا ماذا يريد هذا الرجل الصابر كما الجبال  ؟ ؟
 فى تساؤل وارتياب نظر الى أسفل متسائلا عما يفعل النمل بأسفل , وكانوا هناك يصنعون دائرة كبيرة من تحت المبنى وبفعلون شيئا لم أفطن إليه حتى وضح جليا هناك , النمل اخيرا يصنع من ملابسه  بساطا يستقبل به صابر بينما  بدأت تعلو حناجرهم بسقوط الطابق الاخير .



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الكهرباء الحره